سورة فاطر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الناسُ إِن وعدَ الله} بالبعث والجزاء {حق} أي: كائن لا محالة، فاستعدُّوا للقائه، {فلا تَغُرنَّكم الحياةُ الدنيا} لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة، ولا يُذهلنكم التمتُّع بها، والتلذُّذ بملاذها، والاشتغال بجمعها واحتكارها، عن التأهُّب للقاء الله، وطلب ما عنده. وفي الحديث: «فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنات علية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرىء مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه» {ولا يغرنكم بالله الغرورُ} أي: الشيطان، فإنه يُمنِّيكم الأماني الكاذبة، ويقول: إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك. أو: إن الله غفور لمَن عصاه.
{إِنَّ الشيطانَ لكم عدوٌّ} ظاهر العداوة، فعل بأبيكم ما فعل، وأنتم تعاملونه معاملة الحبيب الناصح، {فاتخِذوه عدواً} فلا تقبلوا غروره في عقائدكم وأفعالكم، وكُونوا على حذر منه في جميع أحوالكم؛ إذ لا يوجد منه إلا ما يدل على عداوته في سركم وجهركم.
قال الورتجبي: إنه عدو؛ لأنه من عالم القهر خُلق، ونحن من عالم اللطف خُلقنا. والطبعان متخالفان أبداً، لأن القهر واللطف تسابقا في الأزل، فسبق اللطفُ القهر، فعداوته من جهة الطبع الأول، والجهل بالعصمة، وأنوار التأييد والنصرة، ومَن لا يعرفه بما وصفنا، كيف يتخذه عدواً؟ وهو لا يعرف مكائده، ولا يعرف مكائده إلا وليّ أو صدِّيق. اهـ.
ثم خطّأ مَن اتبعه؛ بأن غرضه أن يورد شيعَته موارد الهلاك، بقوله: {إِنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} فهو تقرير لعداوته، وبيان لغرضه في دعوى شيعته إلى اتباع الهوى، والركون إلى الدنيا، أي: إنما يدعوهم إلى الهوى، ليكونوا من أهل النار.
ثم بيَّن مآل مَن اتبعه ومَن عاداه، فقال: {الذين كفروا لهم عذاب شديد} أي: فمَن أجابه إلى ما دعي فله عذاب شديد؛ لأنه صار من حزبه وأتباعه، {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} ولم يجيبوه، ولم يصيروا من حزبه، بل عادوه، {لهم مغفرةٌ وأجر كبير} لكبر جهاده ودوامه.
الإشارة: وَعْد الله هنا عام، وكله حق، واجب الوقوع، لا يتخلّف، فيصدق بوعد الرزق، وكفاية مَن انقطع إليه عن الخلق، لقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وتولى مَن أصلح حالَه لقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] ويصدق بإثابة المطيع، وعتاب المعاصي، أو حلمه عنه، وغير ذلك من المواعد كلها، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق، وخوف الخلق، والتشمير في الطاعة، والفرار من المعصية، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى: {إِن الشيطان لكم عدو...} إلخ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان، فاشتغلوا بعداوته ومحارتبه، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من سر الخطاب: إن الشيطان لكم عدو، وأنا لكم حبيب، فاشْتَغلُوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو.
قيل لبعضهم: كيف صُنعك مع الشيطان؟ فقال: نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب، أو قطع الإهاب، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله، والفناء فيه، ولكن الدواء هو الغيبة عنها، والاشتغال بالله دائماً، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها، دُقّه، بعكس مرادها، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدي رضي الله عنه: «انس نفسك بالله، واعتمد على فضل الله، وامتثل شيئاً ما، وينوب الله». وفي الحكم العطائية: «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». وقال أيضاً: «وحرّك عليك النفس ليدون إقبالك عليه». وقال: «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه، غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليك».


قلت: {أفمن}: مبتدأ حُذف خبره، أي: كمن هداه الله، أو ذهبت نفسك عليه حسرات. و{حسرات}: مفعول له. وجَمعها لتضاعف اغتمامه، أو تعدُّد مساوئهم. و{عليهم}: صلة لتذهب، كما تقول: هلك عليه حُبًّا، ومات عليه حُزناً. ولا يتعلق بحسرات؛ لأن المصدر لا يتقدَّم عليه صلته، إلا أن يتسامح في الجار والمجرور.
يقول الحق جلّ جلاله: {أفمن زُيّن له سُوءُ عمله} بأنْ غلَب هواه على عقله، وجهله على علمه، حتى انعكس رأيه، {فرآه حَسَناً} فرأى الباطل حقًّا، والقبيح حسناً، كمَن هداه الله واستبصر، فرأى الحق حقًّا، والباطل باطلاً، فتبع الحق، وأعرض عن الباطل، ليس الأمر كذلك، {فإِن الله يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء} فمَن أضله رأى الباطل حقًّا، فتبعه، ومَن هداه رأى الباطل باطلاً، فاجتنبه، والحق حقًّا فاتبعه. {فلا تَذْهَبْ نفسُك عليهم حسرات} أي: فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب، فإن أمرهم بيدي، وأنا أرحم بهم منك، فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب. {إِن الله عليم بما يصنعون} فيجازيهم عليه، وهو وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
الإشارة: إذا أراد الله إبعاد قوم غطّى نور بصيرتهم بظلمة الهوى فيُزيّن في عينهم القبيح، ويستقبح المليح، فيرون القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، كما قال الشاعر:
يُغمى على المرء في أيام مِحنته *** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
قال القشيري: ومعنى التزيين؛ كالكافر، يَتَوَهَّمُ أنَّ فعله حَسَنٌ، وهو عند الله من أقبح القبيح، ثم الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها، ويحوّش حُطَامها، لا يتفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها من قبل كمالها، ولقد زيَّن له سوء عمله، والذي يتبع الشهوات يبيع مؤبد راحته في الجنة، بمتابعة شهوة ساعة، فلقد زُين له سُوءُ عمله، والذي يُؤيِرُ على ربِّه شيئاَ من المخلوقات، فهُو من جملتهم، والذي يتوهَّمُ أنه إذا وَجَدَ النجاة والدرجات في الجنة فقد اكتفى، فقد زُيِّن له سوءُ عمله، حيث تغافل عن حلاوة مناجاته. والذي هو في صحبة حظوظه، دون إيثار حقوق الله، فقد زُين له سوء عمله فرآه حسناً. اهـ.
قلت: وكذلك مَن وقف مع الكرامات والمقامات، وحلاوة الطاعات، دون درجة المشاهدة، فقد زُين له سوء عمله. والحاصل: كل مَن وقف مع شيء، دون تحقيق الفناء في الذات، فهو مُزيَّن له سوء عمله. وكل مَن لم يصحب الرجال فهو غالط، يظن أنه واصل، وهو منقطع في أول البدايات. وبالله التوفيق. وقوله تعالى: {فلا تَذهب نفسك عليهم حسرات}، كذلك يقال للواعظ، إذا رأى إدبار الخلق، وعدم تأثير الوعظ فيهم، فليكتفِ بعلم الله فيهم، ولا يتأسّف على أحد، فإن التوفيق بيد الله.


قلت: {كذلك}: خبر مقدّم، و {النشور}: مبتدأ.
يقول الحق جلّ جلاله: {واللهُ الذي أرسلَ الرياحَ} وفي قراءة بالإفراد، للجنس، {فتُثير سحاباً} أي: تزعجه، وعبَّر بالمضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة، التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، الدالة على كمال القدرة وباهر الحكمة. {فسُقناه إِلى بلدٍ ميتٍ} لا نبات فيه، {فأحيينا به} أي: بالمطر النازل منه {الأرضَ بعد موتها} بعد يبسها. وعدل من الغيبة إلى التكلم؛ لأنه أدخل في الاختصاص؛ لِمَا فيه من مزيد بديع الصنع، {كذلك النشورُ} أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات. وقيل: يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش، كمنيّ الرجال، فتنبت به الأجسادُ في قبورها، ثم يرسل الأرواح فتدخل في أشباحها. قال أبو رزين: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «هل مررت بواد أهلك مَحْلاً؟ أي جدباً» قلت: نعم، قال: «فكذلك يُحيي الله الموتى، وتلك آية الله في خلقه».
الإشارة: والله الذي أرسل رياح الهداية، فتزعج سحاب الغين عن قلوب أهل الهداية، فسقناه أي: ريح الهداية إلى قلب ميت بالغفلة والجهل بالله، فأحيينا بالوارد الناشىء عن ريح الهداية أرضَ النفوس، بالنشاط إلى العبادة، والذكر، والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والقسوة، كذلك النشور. وذلك عِزها.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8